فصل: الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثالث في أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة

اعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله من الجندي والشرطي والكاتب‏.‏ ويستكفي في كل باب بمن يعلم غناءه فيه ويتكفل بأرزاقهم من بيت ماله‏.‏ وهذا كله مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم‏.‏ وأما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزاً عنها لما ربي عليه من خلق التنعم والترف فيتخذ من يتولى ذلك له ويقطعه عليه أجراً من ماله‏.‏ وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان إذ الثقة بكل أحد عجز ولأنها تزيد في الوظاثف والخرج وتدل على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما‏.‏ إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه‏.‏ ومع ذلك فالخديم الذي يستكفى به ويوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات‏:‏ إما مضطلع بأمره وموثوق فيما يحصل بيده وإما بالعكس فيهما وهو أن يكون غيرمضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده وإما بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع‏.‏ فأما الأول المضطلع الموثوق فلا يمكن أحد استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه وثقته غني عن أهل الرتب الدنية ومحتقر لمنال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه العريض لعموم الحاجة إلى الجاه‏.‏ وأما الصنف الثاني‏.‏ من ليس بمضطلع ولا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنه يجحف بمخدومه في الأمرين معاً فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة ويذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كل حال كل على مولاه‏.‏ فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما‏.‏ ولم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين‏:‏ موثوق غير مضطلع ومضطلع غير موثوق‏.‏ وللناس الترجيح بينهما مذهبان ولكل من الترجيحين وجه‏.‏ إلا أن المضطلع ولو كان غير موثوق أرجح لأنه يؤمن من تضييعه ويحاول على التحرز عن خيانته جهد الاستطاعة‏.‏ وأما المضيع ولو كان مأموناً فضرره بالتضييع أكثر من نفعه‏.‏ فاعلم ذلك واتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة‏.‏ والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء‏.‏

  الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي

اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك‏.‏ ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان‏.‏ فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها‏.‏ وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس‏.‏ ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممن لم يعرف طلسمه ولا خبره فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان‏.‏ أو يشارف الأموال والجواهر موضوعة والحرس دونها منتضين سيوفهم‏.‏ أو تميد به الارض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر‏.‏ ونجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي إما بخطوط عجمية أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونهم على الحفر والطلب ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام والعقوبات‏.‏ وربما تكون عند بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه وهو بمعزل عن السحر وطرقه فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار والتستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء وعيون أهل الدول‏.‏ فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم‏.‏ والذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله عجزاً عن السعي في المكاسب وركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه‏.‏ ولا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب ومتاعب وجهد شديد أشد من الأول ويعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات‏.‏ وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده وخروجها عن حد النهاية حتى تقصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه ولا تفي بمطالبها‏.‏ فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي لم يجد وليجة في نفسه إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده‏.‏ ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة ومن سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال مثل مصر وما في معناها‏.‏ فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله ومساءلة الركبان عن شواذه كما يحرصون على الكيمياء‏.‏ هكذا يبلغنا عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل وأنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق‏.‏ ويموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل تستراً بذلك من الكذب حتى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه‏.‏ فعلومهم السحرية وآثارها باقية بأرضهم في البراري وغيرها‏.‏ وقصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها وهي هذه‏:‏ يا طالباً للسر في التغوير إسمع كلام الصدق من خبير دع عنك ما قد صنفوا في كتبهم من قول بهتان ولفظ غرور واسمع لصدق مقالتي ونصيحتي إن كنت ممن لا يرى بالزور فإذا أردت تغور البئر التي حارت لها الأوهام في التدبير صور كصورتك التي أوقفتها والرأس رأس الشبل في التقوير وبصدره هاء كما عاينتها عدد الطلاق احذر من التكرير ويطا على الطاءات غير ملامس مشي اللبيب الكيس النحرير ويكون حول الكل خط دائر تربيعه أولى من التكوير واذبح عليه الطير والطخه به واقصده عقب الذبح بالتبخير بالسندروس وباللبان وميعة والقسط والبسه بثوب حرير من أحمر أو أصفر لا أزرق لا أخضر فيه ولا تكدير ويشده خيطان صوف أبيض أو أحمر من خالص التحمير والطالع الأسد الذي قد بينوا ويكون بدء الشهر غير منير والبدر متصل بسعد عطارد في يوم سبت ساعة التدبير يعني أن تكون الطا آت بين قدميه كأنه يمشي عليها وعندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة وتنتهي التخرفة والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدور المعروفة بمثل هذه ويحفرون بها الحفر ويضعون فيها المطابق والشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف ويطالبونه بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحل الطلاسم ويعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم يلبسون به عليهم ليخفى عند محاورتهم فيما يتناولونه من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك‏.‏ وأما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم ولا خببر‏.‏ واعلم أن الكنوز وإن كانت توجدة لكنها في حكم النادر على وجه الاتفاق لا على وجه القصد إليها‏.‏ وليس ذلك بأمر تعم به البلوى حتى يدخر الناس غالباً أموالهم تحت الأرض ويختمون عليها بالطلاسم لا في القديم ولا في الحديث‏.‏ والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء وهو دفين الجاهلية إنما يوجد بالعثور والاتفاق لا بالقصد والطلب‏.‏ وأيضاً فمن اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه فكيف ينصب عليه الأدلة والأمارات لمن يبتغيه‏.‏ ويكتب ذلك في الصحائف حتى يطلع علي ذخيرته أهل الأمصار والأفاق هذا يناقض قصد الإخفاء‏.‏ وأيضاً فأفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع‏.‏ ومن اختزن المال فإنما يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره‏.‏ وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد وإنما هو للبلا والهلاك أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه‏.‏ وأما قولهم‏:‏ أين أموال الأمم من قبلنا وما علم فيها من الكثرة والوفور فاعلم أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن‏.‏ والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها‏.‏ وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث‏.‏ وربما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى اخرى بحسب أغراضه والعمران الذي يستدعيه‏.‏ فإن نقص المال في المغرب وإفريقية فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج وإن نقص في مصر والشام فلم ينقص في الهند والصين‏.‏ وإنما هي الآلات والمكاسب والعمران يوفرها أو ينقصها مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات ويسرع إلى اللؤلؤ جوهر أعظم مما يسرع إلى غيره‏.‏ وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت‏.‏ وأما ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز فسببه أن مصر كانت في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب والفضة والجواهر واللآلىء على مذهب من تقذم من أهل الدول‏.‏ فلما انقضت دولة القبط وملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم وكشفوا عنه فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف‏:‏ كالأهرام من قبور الملوك وغيرها‏.‏ وكذا فعل اليونانيون من بعدهم وصارت قبورهم مظنة لذلك لهذا العهد‏.‏ ويعثر على الدفين فيها في كثير من الأوقات‏.‏ أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية وتوابيت من الذهب والفضة معدة لذلك فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنة لوجود ذلك فيها‏.‏ فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها واستخراجها‏.‏ حتى إنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة ضربت على أهل المطالب‏.‏ وصارت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمهوسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه والذرع باستخراجه‏.‏ وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم نعوذ بالله من الخسران فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس أو ابتلي به أن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وينصرف عن طرق الشيطان ووسواسه ولا يشغل نفسه بالمحالات والكاذب من الحكايات‏.‏ ‏"‏ والله يرزق من يشاء بغير حساب ‏"‏‏.‏

  الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال

وذلك أنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه‏.‏ والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه‏.‏ فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه‏.‏ وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه‏.‏ فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها فتتوفر عليه‏.‏ والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد مع الأيام يساراً وثروة‏.‏ ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه‏.‏ وفاقد الجاه بالكلية ولو كان صاحب مال فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه وهؤلاء هم أكثر التجار‏.‏ ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير‏.‏ ومما يشهد لذلك أنا نجد كثيراً من الفقهاء وأهل الدين والعبادة إذا اشتهروا حسن الظن بهم واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم فأخلص الناس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم‏.‏ أسرعت إليهم الثروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم‏.‏ رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار والمدن‏.‏ وفي البدو يسعى لهم الناس في الفلح والنجر وكل قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبة ويتأثل الغنى من غير سعي‏.‏ ويعجب من لا يفطن لهذا السر

  الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً

لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة قد سبق لنا فيما سلف أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم‏.‏ ولو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية‏.‏ وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته‏.‏ وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه‏.‏ وقد بينا آنفاً أن الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضار وجلب المنافع‏.‏ وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح‏.‏ وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت‏.‏ ثم إن الجاه متوزغ في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه‏.‏ وبين ذلك طبقات متعددة‏.‏ حكمة الله في خلقه‏.‏ بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم لأن النوع الإنساني لما كان لا يتم وجوده وبقاؤه إلا بتعاون أبنائه على مصالحهم لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده‏.‏ وأنه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه‏.‏ ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع ولما جعل الله لهم من الاختيار وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع‏.‏ وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ‏"‏ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون ‏"‏‏.‏ فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي‏.‏ لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير‏.‏ وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم‏.‏ ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق‏.‏ وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه‏.‏ والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه‏.‏ فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقاً وقليلاً فمثله‏.‏ وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله وعلى نسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته كأكثر التجار‏.‏ وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدفعون ضرورة الفقر مدافعة‏.‏ وإذا تقرر ذلك وأن الجاه متفرع وأن السعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أن باذله وإفادته من أعظم النعم وأجلها وأن باذله من أجل المنعمين‏.‏ وإنما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعن عزة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق كما يسأل أهل العز والملوك وإلا فيتعذر حصوله‏.‏ فلذلك قلنا إن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب وإن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا الخلق‏.‏ ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم لا يحصل لهم غرض من الجاه فيقتصرون في التكسب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة‏.‏ واعلم أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة إنما يحصل من توهم الكمال وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبخر في علمه أو الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره‏.‏ وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفع عليهم بذلك ويهذا يتوهم أهل الأنسات ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون بما رأوه أو سمعوه من حال آبائهم في المدينة ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم‏.‏ فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم إذ الكمال لا يورث وكذلك أهل الحيلة والبصر والتجارب بالأمور قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بذلك واحتياجاً إليه‏.‏ وتجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم‏.‏ ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعده مذلة وهواناً وسفهاً‏.‏ ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار مما يتوهم في نفسه ويحقد على من قصر له في شيء مما يتوهمه من ذلك‏.‏ وربما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمر في عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك‏.‏ ويحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله‏.‏ وقل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال والترفع عليه إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة‏.‏ وهذا كله في ضمن الجاه‏.‏ فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبين لك مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من إحسانهم‏.‏ وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود من تعاهدهم وغشيان منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل‏.‏ وأما الثروة فلا تحصل له أصلاً‏.‏ ومن هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظ وهذا معناه‏.‏ ومن خلق لشيء يسر له‏.‏ والله المقدر لا رب سواه‏.‏ ولقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل هذا الخلق ويرتفع فيها كثير من السفلة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك‏.‏ وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك‏.‏ وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان وكأنهم خول له‏.‏ فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته‏.‏ فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه ويتزلف إليه بوجوه خدمته ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه‏.‏ حتى يرسخ قدمه معهم وينظمه السلطان في جملته فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة‏.‏ وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره ويجرون في مضمار الدالة بسببه فيمقتهم السلطان لذلك ويباعدهم‏.‏ ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع‏.‏ إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه‏.‏ والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده‏.‏ ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان ومقتاً وإيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة‏.‏ وهذا أمر طبيعي في الدول‏.‏ ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

  الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين

من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والسبب في ذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال وأنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها‏.‏ فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى فيه كانت قيمتها أعظم وكانت الحاجة إليها أشد‏.‏ وأهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه‏.‏ وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار والعموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء‏.‏ في الأكثر‏.‏ وإنما يهتم بهم وبإقامة مراسمهم صاحب الدولة بما له من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه‏.‏ لا يساويهم بأهل الشوكة ولا بأهل الصنائع الضرورية وإن كانت بضاعتهم أشرف من حيث الدين والمراسم الشرعية لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران فلا يصح في قسمتهم إلا القليل‏.‏ وهم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق وعند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشغل بهذه الصنائع الشريفة المشتملة على أعمال الفكر والتدبر‏.‏ بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف صنائعهم فهم بمعزل عن ذلك‏.‏ فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب‏.‏ ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدخل والخرج يومئذ‏.‏ وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين فوقفته عليه‏.‏ وعلم منه صحة ما قلته ورجع إليه‏.‏ وقضينا العجب من أسرار الله في خليقته وحكمته في عوالمه‏.‏ والله الخالق القادر لارب سواه‏.‏

  الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو

وذلك لأنه أصيل في الطبيعة وبسيط في منحاه‏.‏ ولذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب ولا من المترفين‏.‏ ويختص منتحله بالمذلة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم وقد رأى السكة ببعض دور الأنصار‏:‏ ‏"‏ ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل ‏"‏‏.‏ وحمله البخاري على الاستكثار منه‏.‏ وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به‏.‏ والسبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم واليد العالية فيكون الغارم ذليلاً بائساً بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً ‏"‏ إشارة إلى الملك العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط والجور ونسيان حقوق الله تعالى في المتمولات واعتبار الحقوق كلها مغرماً للملوك

  الفصل التاسع في معني التجارة ومذاهبها وأصنافها

اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء أياً ما كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش‏.‏ وذلك القدر النامي يسمى ربحاً‏.‏ فالمحاول لذلك الربح‏:‏ إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه وإما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه فيعظم ربحه‏.‏ ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار لطالب الكشف عن حقيقة التجارة‏:‏ أنا أعلمها لك في كلمتين اشتراء الرخيص وبيع الغالي‏.‏ فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

  الفصل العاشر في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة

وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها قد تقدم لنا أن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بالغلاء بأغلى من ثمن الشراء‏.‏ اما بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال‏.‏ وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال نزر يسير لأن المال إن كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير‏.‏ ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع وبيعها ومعاملتهم في تقاضي أثمانها‏.‏ وأهل النصفة قليل فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح‏.‏ كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه‏.‏ ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيد بالكتاب والشهادة‏.‏ وغناء الحكام في ذلك قليل لأن الحكم إنما هو على الظاهر فيعاني التاجرمن ذلك أحوالاً صعبة‏.‏ ولا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله‏.‏ فإن كان جريئاً على الخصومة بصيراً بالحسبان شديد المماحكة مقداماً على الحكام كان ذلك أقرب له إلى النصفة منهم بجراءته ومماحكته وإلا فلا بد له من جاه يدرع به فيوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكام على إنصافه من غرمائه فيحصل له بذلك النصفة واستخلاص ماله منهم طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني‏.‏ وأما من كان فاقداً للجراءة والإقدام من نفسه وفاقد الجاه من الحكام فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب ويصيره مأكلة للباعة ولا يكاد ينتصف منهم لأن الغالب في الناس وخصوصاً الرعاع والباعة شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم متوثبون عليه‏.‏ ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً‏.‏ ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ‏"‏‏.‏